فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولعل السر في كونه منامًا لا يقظة أن تكون المبادرة إلى الامتثال أدل على كمال الانقياد والإخلاص.
وقيل: كان ذلك في المنام دون اليقظة ليدل على أن حالتي الأنبياء يقظة ومنامًا سواء في الصدق، والأول أولى، والتأكيد لما في تحقق المخبر به من الاستبعاد، وصيغة المضارع في الموضعين قيل لاستحضار الصورة الماضية لنوع غرابة، وقيل: في الأول لتكرر الرؤية وفي الثاني للاستحضار المذكور أو لتكرر الذبح حسب تكرر الرؤيا أو للمشاكلة؛ ومن نظر بعد ظهر له غير ذلك.
{فانظر مَاذَا ترى} من الرأي؛ وإنما شاوره في ذلك وهو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله عز وجل فيثبت قدمه إن جزع ويأمن عليه إن سلم وليوطن نفسه عليه فيهون عليه ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله تعالى قبل نزوله وليكون سنة في المشاورة، فقد قيل: لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك، وقرأ حمزة والكسائي {مَاذَا ترى} بضم التاء وكسر الراء خالصة أي ما الذي تريني إياه من الصبر وغيره أو أي شيء تريني على أن ما مبتدأ وذا موصول خبره ومفعولي ترى محذوفان أو ماذا كالشيء الواحد مفعول ثان لترى والمفعول الأول محذوف، وقرئ {مَاذَا ترى} بضم التاء وفتح الراء على البناء للمفعول أي ماذا تريك نفسك من الرأي، و{أَنظُرْ} في جميع القراءات معلقة عن العمل وفي {مَاذَا} الاحتمالان فلا تغفل.
{قَالَ يَاءادَمُ يا أبت افعل مَا تُؤمَرُ} أي الذي تؤمر به فحذف الجار والمجرور دفعة أو حذف الجار أولًا فعدى الفعل بنفسه نحو أمرتك الخير ثم حذف المجرور بعد أن صار منصوبًا ثانيًا، والحذف الأول شائع مع الأمر حتى كاد يعد متعديًا بنفسه فكأنه لم يجتمع حذفان أو افعل أمرك على أن ما مصدرية والمرادب المصدر الحاصل بالمصدر أي المأمور به، ولا فرق في جواز إرادة ذلك من المصدر بين أن يكون صريحًا وأن يكون مسبوكًا.
وإضافته إلى ضمير إبراهيم إضافة إلى المفعول ولا يخفى بعد هذا الوجه، وهذا الكلام يقتضي تقدم الأمر وهو غير مذكور فإما أن يكون فهم من كلامه عليه السلام أنه رأى أنه يذبحه مأمورًا أو علم أن رؤيا الأنبياء حق وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر، وصيغة المضارع للإيذان بغرابة ذلك مثلها في كلام إبراهيم على وجه وفيه إشارة إلى أن ما قاله لم يكن إلا عن حلم غير مشوب بجهل بحال المأمور به، وقيل: للدلالة على أن الأمر متعلق به متوجه إليه مستمر إلى حين الامتثال به، وقيل: لتكرر الرؤيا، وقيل: جىء بها لأنه لم يكن بعد أمر وإنما كانت رؤيا الذبح فأخبره بها فعلم لعلمه بمقام أبيه وأنه ممن لا يجد الشيطان سبيلًا بإلقاء الخيالات الباطلة إليه في المنام أنه سيكون ذلك ولا يكون إلا بأمر إلهي فقال له افعل ما تؤمر بعد من الذبح الذي رأيته في منامك، ولما كان خطاب الأب {أَوْ بَنِى} على سبيل الترجم قال هو {يا أبت} على سبيل التوقير والتعظيم ومع ذلك أتى بجواب حكيم لأنه فوض الأمر حيث استشاره فأجاب بأنه ليس مجازها وإنما الواجب إمضاء الأمر.
{سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصابرين} على قضاء الله تعالى ذبحًا كان أو غيره، وقيل: على الذبح والأول أولى للعموم ويدخل الذبح دخولًا أوليًا، وفي قوله: {مّنَ الصابرين} دون صابرًا وإن كانت رؤوس الآي تقتضي ذلك من التواضع ما فيه، قيل ولعله وفق للصبر ببركته مع بركة الاستثناء وموسى عليه السلام لما لم يسلك هذا المسلك من التواضع في قوله: {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا} [الكهف: 69] حيث لم ينظم نفسه الكريمة في سلك الصابرين بل أخرج الكلام على وجه لا يشعر بوجود صابر سواه لم يتيسر له الصبر مع أنه لم يهمل أمر الاستثناء.
وفيه أيضًا إغراء لأبيه عليه السلام على الصبر لما يعلم من شفقته عليه مع عظم البلاء حيث أشار إلى أن لله تعالى عبادًا صابرين وهي زهرة ربيع لا تتحمل الفرك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)}.
لما نجا إبراهيم من نارهم صمّم على الخروج من بلده أُور الكلدانيين.
وهذه أول هجرة في سبيل الله للبعد عن عبادة غير الله.
والتوراة بعد أن طوت سبب أمر الله إياه بالخروج ذكر فيها أنه خرج قاصدًا بلاد حَران في أرض كنعان وهي بلاد الفينيقيين.
والظاهر: أن هذا القول قاله علنًَا في قومه ليكفوا عن أذاهُ، وكان الأمم الماضون يُعدّون الجلاء من مقاطع الحقوق، قال زهير:
وإن الحق مقطعه ثلاث ** يَمين أو نِفار أو جَلاء

ولذلك لما أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة من مكة لم يتعرض له قريش في بادىء الأمر ثم خافوا أن تنتشر دعوته في الخارج فراموا اللحاق به فحبسهم الله عنه.
ويحتمل أن يكون قال ذلك في أهله الذين يريد أن يخرج بهم معه فمعنى {ذاهبٌ إلى ربي} مهاجر إلى حيث أعبد ربّي وحده ولا أعبد آلهة غيره ولا أفتَن في عبادته كما فتنت في بلدهم.
ومراد الله أن يفضي إلى بلوغ مكة ليقيم هنالك أول مسجد لإِعلان توحيد الله فسلك به المسالك التي سلكها حتى بلغ به مكة وأودع بها أهلًا ونسلًا، وأقام بها قبيلة دينُها التوحيد، وبنى لله معبدًا، وجعل نسله حفظة بيت الله، ولعلّ الله أطلعه على تلك الغاية بالوحي أو سترها عنه حتى وجد نفسه عندها فلذلك أنطقه بأن ذهابه إلى الله نطقًا عن علم أو عن توفيق.
وجملة {سَيَهْدِينِ} يجوز أن تكون حالًا وهو الأظهر لأنه أراد إعلام قومه بأنه واثق بربه وأنه لا تردد له في مفارقتهم، ويجوز أن تكون استئنافًا؛ فعلى الأول هي حال من اسم الجلالة، ولا يمنع من جعل الجملة حالًا اقترانها بحرف الاستقبال فإن حرف الاستقبال يدل على أنها حال مقدّرة، والتقدير: أني ذاهب إلى ربّي مقدِّرًا، كما لم يمتنع مجيء الحال معمولًا لعامل مستقبل كما في قوله تعالى: {سيدخلون جهنم داخرين} [غافر: 60] وقوله تعالى: {إن معي ربي سيهدين} [الشعراء: 62] وقول سعد بن ناشب:
سأغسل عني العار بالسيف جالبًا ** علي قضاءُ الله ما كان جالبًا

وامتناع اقتران جملة الحال بعلامة الاستقبال في الإِثبات أو النفي مذهب بصري، وهو ناظر إلى غالب أحوال استعمال الحال، وجوازه مذهب كوفي كما ذكره ابن الأنباري في الإنصاف، والحق في جانب نحاة الكوفة.
وقد تلقّف المذهب البصري معظمُ علماء العربية وتحيّر المحققون منهم في تأييده فلجأوا إلى أن علته استبشاع الجمع بين كون الكلمة حالًا وبين اقترانها بعلامة الاستقبال.
ونُبينُه بأن الحال ما سميت حالًا إلا لأن المراد منها ثبوت وصف في الحال وهذا ينافي اقترانها بعلامة الاستقبال تنافيًا في الجملة.
هذا بيان ما وجّه به الرضيّ مذهب البصريين وتبعه التفتازاني في مبحث الحال من شرحه المطوّل على تلخيص المفتاح.
وفي مبحث الاستفهام ب هل منه.
وقد زيف السيد الجرجاني في حاشية المطوّل ذلك التوجيه في مبحث الحال تزييفًا رشيقًا.
ويجوز أن تكون جملة {سيهدينِ} مستأنفة وبذلك أجاب نحاة البصرة عن تمسك نحاة الكوفة بالآية في جواز اقتران الحال بعلَم الاستقبال، فالاستئناف بياني بيانًا لسبب هجرته.
وجملة {ربّ هب لي من الصالِحِينَ} بقية قوله فإنه بعد أن أخبر أنه مهاجر استشعر قلة أهله وعقم امرأته وثار ذلك الخاطر في نفسه عند إزماع الرحيل لأن الشعور بقلة الأهل عند مفارقة الأوطان يكون أقوى لأن المرء إذا كان بين قومه كان له بعض السلوّ بوجود قرابته وأصدقائه.
ومما يدل على أنه سأل النسل ما جاء في سفر التكوين الاصحاح الخامس عشر وقال أبرام إنك لم تعطني نسلًا وهذا ابن بيتي بمعنى مولاه وارث لي أنهم كانوا إذا مات عن غير نسل ورثه مواليه.
وكان عمر إبراهيم حين خرج من بلاده نحوًا من سبعين سنة.
وقال في الكشاف: لفظ الهبة غلب في الولد.
لعله يعني أن هذا اللفظ غلب في القرآن في الولد: ولا أحسبه غلب فيه في كلام العرب لأني لم أقف عليه وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيًا} [مريم: 53].
فحذف مفعول الفعل لدلالة الفعل عليه.
ووصفه بأنه من الصالحين لأن نعمة الولد تكون أكمل إذا كان صالحًا فإن صلاح الأبناء قُرة عين للآباء، ومن صلاحهم برُّهم بوالديهم.
{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)}.
الفاء في {فبشَّرناهُ} للتعقيب، والبشارة: الإِخبار بخير وارد عن قرب أو على بعد؛ فإن كان الله بشّر إبراهيم بأنه يولد له ولد أو يوجد له نسل عقب دعائه كما هو الظاهر وهو صريح في سفر التكوين في الإصحاح الخامس عشر فقد أخبره بأنه استجاب له وأنه يهبه ولدًا بعد زمان، فالتعقيب على ظاهره؛ وإن كان الله بشره بغلام بعد ذلك حين حملت منه هاجر جاريته بعد خروجه بمدة طويلة، فالتعقيب نسبي، أي بشرناه حين قدّرنا ذلك أول بشارة بغلام فصار التعقيب آئلًا إلى المبادرة كما يقال: تزوج فولد له؛ وعلى الاحتمالين فالغلام الذي بشر به هو الولد الأول الذي ولد له وهو إسماعيل لا محالة.
والحليم: الموصوف بالحلم وهو اسم يجمع أصالة الرأي ومكارم الأخلاق والرحمة بالمخلوق.
قيل: ما نَعَتَ الله الأنبياء بأقلّ مما نعتهم بالحلم.
وهذا الغلام الذي بشر به إبراهيم هو إسماعيل ابنه البكر وهذا غير الغلام الذي بشره به الملائكة الذين أرسلوا إلى قَوم لوط في قوله تعالى: {قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم} [الذاريات: 28] فذلك وُصف بأنه {عليم}.
وهذا وصُف ب {حَلِيمٍ} وأيضًا ذلك كانت البشارة به بمحضر سَارَة أمِّه وقد جُعلت هي المبشرة في قوله تعالى: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخًا} [هود: 72]، فتلك بشارة كرامة والأولى بشارة استجابة دعائه، فلما ولد له إسماعيل تحقق أمل إبراهيم أن يكون له وارث من صلبه.
فالبشارة بإسماعيل لما كانت عقب دعاء إبراهيم أن يهب الله له من الصالحين عطفت هنا بفاء التعقيب، وبشارته بإسحاق ذكرت في هذه السورة معطوفة بالواو عطف القصة على القصة.
والفاء في {فلمَّا بلغَ معهُ السَّعي} فصيحة لأنها مفصحة عن مقدر، تقديره: فولد له ويفع وبلغ السعي فلما بلغ السعي قال يا بنيّ الخ، أي بلغ أن يسعى مع أبيه، أي بلغ سنّ من يمشي مع إبراهيم في شؤونه.
فقوله: {معه} متعلق بالسعي والضمير المستتر في {بلغ} للغلام، والضمير المضاف إليه {معه} عائد إلى إبراهيم.
و{السعي} مفعول {بلغ} ولا حجة لمن منع تقدم معمول المصدر عليه، على أن الظروف يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها من المعمولات.
وكان عمُر إسماعيل يومئذٍ ثلاث عشرة سنة وحينئذٍ حدّث إبراهيم ابنه بما رآه في المنام ورؤيا الأنبياء وحي وكان أول ما بُدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة ولكن الشريعة لم يوح بها إليه إلا في اليقظة مع رؤية جبريل دون رؤيا المنام، وإنما كانت الرؤيا وحيًا له في غير التشريع مثل الكشف على ما يقع وما أعد له وبعض ما يحل بأمته أو بأصحابه، فقد رأى في المنام أنه يهاجِر من مكة إلى أرض ذات نخل فلم يهاجر حتى أُذن له في الهجرة كما أخبر بذلك أبا بكر رضي الله عنه، ورأى بَقرًا تُذبح فكان تأويل رؤياه مَن استشهد من المسلمين يوم أحد، ولقد يُرجَّح قول القائلين من السلف بأن الإِسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقظة وبالجسد على قول القائلين بأنه كان في المنام وبالروح خاصة، فإن في حديث الإِسراء أن الله فرَض الصلاة في ليلته والصلاة ثاني أركان الإِسلام فهي حقيقة بأن تفرض في أكمل أحوال الوحي للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو حال اليقظة فافهم.
وأمر الله إبراهيم بذبح ولده أمرُ ابتلاء.
وليس المقصود به التشريع إذ لو كان تشريعًا لما نسخ قبل العمل به لأن ذلك يفيت الحكمة من التشريع بخلاف أمر الابتلاء.
والمقصود من هذا الابتلاء إظهار عزمه وإثبات علوّ مرتبته في طاعة ربّه فإن الولد عزيز على نفس الوالد، والولد الوحيد الذي هو أمل الوالد في مستقبله أشدّ عزّة على نفسه لا محالة، وقد علمتَ أنه سأل ولدًا لِيرثه نسله ولا يرثه مواليه، فبعد أن أقرّ الله عينه بإجابة سؤله وترعرع ولده أمره بأن يذبحه فينعدم نسله ويخيب أمله ويزول أنسه ويتولى بيده إعدام أحب النفوس إليه وذلك أعظم الابتلاء.
فقابَل أمر ربه بالامتثال وحصلت حكمة الله من ابتلائه، وهذا معنى قوله تعالى: {إنَّ هذا لهو البلاء المبينُ} [الصافات 106].
وإنما برز هذا الابتلاء في صورة الوحي المنامي إكرامًا لإِبراهيم عن أن يزعج بالأمر بذبح ولده بوحي في اليقظة لأن رُؤَى المنام يعقبها تعبيرها إذ قد تكون مشتملة على رموز خفيّة وفي ذلك تأنيس لنفسه لتلقّي هذا التكليف الشاقّ عليه وهو ذبح ابنه الوحيد.
والفاء في قوله: {فانظر ماذا ترى} فاء تفريع، أو هي فاء الفصيحة، أي إذا علمت هذا فانظر ماذا ترى.
والنظر هنا نظر العقل لا نظر البصر فحقه أن يتعدّى إلى مفعولين ولكن علّقه الاستفهام عن العمل.
والمعنى: تأمل في الذي تقابل به هذا الأمر، وذلك لأن الأمر لما تعلق بذات الغلام كان للغلام حظ في الامتثال وكان عرض إبراهيم هذا على ابنه عرض اختبار لمقدار طواعيته بإجابة أمر الله في ذاته لتحصل له بالرضى والامتثال مرتبة بذل نفسه في إرضاء الله وهو لا يرجو من ابنه إلا القبول لأنه أعلم بصلاح ابنه وليس إبراهيم مأمورًا بذبح ابنه جبرًا، بل الأمر بالذبح تعلق بمأمورين: أحدهما بتلقي الوحي، والآخرِ بتبليغ الرسول إليه، فلو قدر عصيانه لكان حاله في ذلك حال ابن نوح الذي أبى أن يركب السفينة لما دعاه أبوه فاعتُبر كافرًا.
وقرأ الجمهور {ماذا ترى} بفتح التاء والراء.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضم التاء وكسر الراء، أي مَاذا تُريني من امتثال أو عدمه.
وحكى جوابه فقال: {يأبتتِ افعل ما تُؤمرُ} دون عطف، جريًا على حكاية المقاولات كما تقدم عند قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يُفسد فيها} في سورة [البقرة: 30].
وابتداء الجواب بالنداء واستحضار المنادى بوصف الأبوة وإضافة الأب إلى ياء المتكلم المعوض عنها التاء المشعر تعويضها بصيغة ترقيق وتحنّن.
والتعبير عن الذبح بالموصول وهو {ما تُؤمَرُ} دون أن يقول: اذْبَحني، يفيد وحده إيماء إلى السبب الذي جَعل جوابه امتثالًا لذبحه.
وحُذف المتعلق بفعل {تُؤمرُ} لظهور تقديره: أي ما تؤمر به.
وبقي الفعل كأنه من الأفعال المتعدية، وهذا الحذف يسمى بالحذف والإِيصال، كقول عمرو بن معد يكرب:
أمرتك الخيرَ فافعل ما أمرتَ به ** فقد تركتُكَ ذا مال وذا نشَب

وصيغة الأمر في قوله: {افْعَلْ} مستعملة في الإِذن.
وعدل عن أن يقال: اذبحني، إلى {افعل ما تؤمرُ} للجمع بين الإِذن وتعليله، أي أذنت لك أن تذبحني لأن الله أمرك بذلك، ففيه تصديق أبيه وامتثال أمر الله فيه.
وجملة {ستَجِدُني} هي الجواب لأن الجمل التي قبلها تمهيد للجواب كما علمت فإنه بعد أن حثّه على فعل ما أُمر به وَعَده بالامتثال له وبأنه لا يجزع ولا يهلع بل يكون صابرًا، وفي ذلك تخفيف من عبْء ما عسى أن يعرض لأبيه من الحزن لكونه يعامل ولده بما يكره.
وهذا وعد قد وفّى به حين أمكن أباه من رقبته، وهو الوعد الذي شكره الله عليه في الآية الأخرى في قوله: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد} [مريم: 54]، وقد قرن وعده ب {إن شاء الله} استعانةً على تحقيقه.
وفي قوله: {مِنَ الصابِرينَ} من المبالغة في اتصافه بالصبر ما ليس في الوصف: بصابر، لأنه يفيد أنه سيجده في عِداد الذين اشتهروا بالصبر وعرفوا به، ألاَ ترى أن موسى عليه السلام لما وعد الخضر قال: {ستجدني إن شاء الله صابِرًا} [الكهف: 69] لأنه حُمل على التصبر إجابة لمقترح الخضر. اهـ.